16‏/08‏/2006

الرجل البطئ في الزمن السريع

لم اكن اتصور او اعلم ان الزمن يمر هكذا سريعا جدا الا حين رأيته قادما من بعيد ذلك الكهل القصير القامة ذو الشعر الخفيف الابيض و القلب الابيض متكئا علي عصاه الخشبية التي تحدد خطواته القصيرة كخطوة طفل صغير لم يزل يتعلم المشي.
مر ذلك الرجل بطيئا جدا في شارعنا القصير جدا لكنه مر طويلا, و الناس تمر من حوله يروحون و يجيئون و احداث في الشارع تقع و اسافر انا بافكاري و اتوه في نفسي طويلا و ارجع و هو لم يبرح مترا من خطواته, مازال قابعا في مكانه يحرك عصاه للامام ببطء ثم يبدأ في تحريك قدمه اليمني ثم بعد قليل يحرك قدمه اليسؤي ثم يقف برهة ليستريح, كل ذلك يحدث و اشياء كثيرة في الشارع تحدث و ذلك الرجل مازال هنا, لقد كدت انساه و انسي انه هنا لولا اني رأيت اشياءا غريبة تحدث في تناقض ملفت لنظري.
ذلك الرجل الذي تخطي الثمانين من عمره يخطو بخطواته ثماني عاما اخري, لقد شابت خطواته كما شاب رأسه, لقد كنا نشكو الوقت من انه يمر بطيئا و لكن ذلك الرجل ابطء من الوقت.
لقد صار الوقت الان سريعا و اختزل ثوانيه و دقائقه و ساعاته, انه يمر سريعا, لقد صار امس قريبا جدا و كأنه اليوم و تلخبطت الايام و الاوقات و الذي كنت تفعله منذ خمسين عاما تراه و تتذكره و كأنك فعلته امس, لقد تقارب الزمن جدا, تقارب حتي انه لم يترك لنا مساحة لنستريح فيها.
انقرضت الايام و الساعات و صار النهار ساعة و الليل نعسة و صار غدا حينما يأتينا و كأنه جاءنا فجأة و كأنن لم ندري انه جاء.
تقارب الزمن و تباعدنا نحن, اختفت من حياتنا محطات الانتظار, لم يعد هناك وقت للانتظار فكل شئ يحدث بسرعة و بلا انتظام عكس ذلك الرجل تماما الذي يسير ببطء و انتظام يحرك العص ثم القدم اليمني ثم العصا ثم القدم اليسري و هكذا........
حينما تابعت ذلك الرجل تابعت فيه زمن لم يكن يبرح مكانه حتي نذهب نحن, زمن صاحب مزاج يحب الجلوس معنا, لم يكن وراءه شئ اخر ليلحق به, زمن يسير كما يريد لا كما نريد نحن...
لقد وصل الرجل الان الى منتصف الشارع القصير و مازال امامه الكثير ليصل الي نهاية الشارع القصير, مازال امامه طويلا لكن العمر قصير, تري لماذا يسير ببطء هكذا؟ ايخاف ان يسرع فيجد الموت امامه؟ هل تعب من الركض خلف الدنيا فاراد ان يستريح الان و يسير ببطء؟
انني مازلت اتابعه حتي اني اشعر ان عمري الان صار مثل عمره تماما و انني دخلت دنيا اخري,انه مازال يسير علي نفس الوتيرة البطيئة المنتظمة, اللحظة في خطوة هذا الرجل تساوي عمرا في ذلك الزمن السؤيع المتلاحق.
الدنيا سريعة للذي يريدها, و الذي لا يريدها فانها تمر عليه ببطء يكاد يخنق الانفاس و يقتل العقل, و الكل صار الان يريد الدنيا, لذلك كانت النهاية اسرع من البداية و كان الموت اسرع من الحياة نفسها.
لقد اختفي الرجل سريعا حينما اقترب من نهاية الشارع, لقد اختفي دون ان يترك اثرا لذلك, سريعا اختفي و سريعا انتهي و بطيئا كان يسير.
ذلك الرجل يعيش في عالم اليوم و السنة , اما نحن فقد الغينا تلك الكلمات من قاموسنا و صار عندنا اللحظة و الثانية و الفيمتوثانية......
يسقط الزمن السريع.. و يحيا الرجل البطئ